تكاملية التجارة الخارجية والاستثمار الداخلي

الشيخ العلامة أحمد حسن الطه

الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، خلق الإنسان من نطفة ونفخ فيه من روحه، وابتلاه بالتكاليف وسلحه بالعقل فجعله سميعاً بصيرا، وهداه السبيل إما شاكراً وإما كفورا.

والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار من المهاجرين والأنصار، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

فإنّ الإنسان محتاج إلى ما في أيدي الآخرين من مأكل، ومشرب، وملبس، ومسكن، ومركب،- سواء أكان ملكاً أم استئجاراً– ونحو ذلك من مستلزمات الحياة ومتطلباتها وذلك لا يحصل عليه الإنسان بسهولة، وإذا حصل فلا يبذلها أصحابها بلا عوض؛ لما جُبلت عليه النفوس من الحرص وحب الحيازة، فاحتيج إلى المعاوضة، وإجراء عملية التبادل؛ لتحقيق الأغراض. سواء أكان ذلك تبادل أعيان بأعيان، أم تبادل منافع بمنافع، أم مختلفاً، كتبادل عين بمنفعة.

فكان من حكمة الله تعالى أن شرع هذا التبادل من: بيع وشراء واستئجار ونحو ذلك؛ دفعاً للحاجة وتحقيقاً للمصلحة، وإلا لفسدت أمور المعاش وتعطلت مسيرة الحياة.

ولأهمية التجارة رغَّب الإسلام في ممارستها بصدق وأمانة ومراقبة لله تعالى في التعامل، قال الله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (سورة الجمعة: آية 10).

وقال رسول الله r: ((التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء)). (أخرجه الدارمي)، وحين سُئل رسول الله r: أي الكسب أفضل؟ قال: ((عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)) (أخرجه الطبراني في الكبير).

فالتجارة إذا من الأمور التي لا غنى للمسلم عنها؛ ولكن ينبغي للتاجر أن يتعلم أحكام التجارة، ويتفقه فيها ليعرف المباح منها من المحظور، وموضع الإشكال من موضع الوضوح، فإذا لم يتعلم التاجر المسلم القدر الكافي من علوم التجارة؛ فإنه قد تقع منه تصرفات غير مباحة، ويضنها صحيحة مباحة، وقد روي عن عمر بن الخطاب t، أنه كان يطوف في السوق ويضرب بعض التجار بالدَّرة حين عرف جهله بأحكام البيع ويقول: ((لا يبيع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا شاء أم أبى)).

أهمية التجارة خارج دار الإسلام:

قد تكون التجارة خارج دار الإسلام مهمة للغاية، ومقاصدها مشروعة، تدعو إليها الحاجة، وتقتضيها المصلحة، سواء كانت بالاستيراد أم بالتصدير، أم باستثمار أموال المسلمين خارج دار الإسلام، شريطة ألا يعود ذلك بالضرر على الوطن بقلة المشاريع العمرانية، أو على المواطن بارتفاع نسبة البطالة.

وقد تدعو الحاجة إلى استيراد ما نحتاجه من الأمور الضرورية، كالأدوية التي لا تتوفر في دار الإسلام، والأجهزة الحديثة التي يحتاجها الأطباء، والتي توفر المطلوب بسرعة وإتقان في أمور الطب والهندسة والاتصالات والطباعة وغير ذلك نتيجة تطور التقنية.

وقد تكون المصلحة بتصدير ما يفيض عن حاجتنا، ولا يعود تصديره بالضرر علينا، دعماً لاقتصادنا، وترويجاً لصادراتنا.

وقد تكون المصلحة بمدِّ الجُسور بيننا وبين مجتمعات غير مسلمة يمكن من خلالها التعريف بالإسلام وعرض منهجه على هذه المجتمعات التي أوجب الله تعالى علينا تبليغها بهذا الدين الذي أنزله الله للخلق كافة، ولم يجعله خاصاً بفئة منهم.

قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﭼ (سورة سبأ: آية 28).

وقال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴿١٠٧﴾ (سورة الأنبياء: آية 107) ، وقال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ﴿٦٩﴾ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٧٠﴾ (سورة يس: آية 69 -70).

وقال سبحانه: قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٠٨﴾  (سورة يوسف: آية 108).

ومن خلال النظر في هذه الآيات يظهر جلياً وجوب تبليغ رسالة الإسلام بشتى الوسائل الممكنة، ومن خلال تعامل المسلمين مع غيرهم، في مختلف مجالات الحياة ومنها التجارية، ولاسيما إذا التزم التجار الذين هم سفراء الإسلام– بالسلوك الإسلامي، مع مراعاة نظام الاقتصاد في الإسلام، وتحري المتاجرة بما ينفع أو يهدف إلى تحقيق هدف نظيف، دون العكس ولو كان مربحاً. وهذا مما يدعو إلى نشر الإسلام ويعرِّف به.

وجوب الاستثمار الداخلي

والتجارة الخارجية لا تعطل الإنتاج المحلي والاستثمار الوطني بل تتكامل معهما، فالتجارة الخارجية لا تعني استثمار أموالنا في تلك الدول، وإنما المعاوضة فيما ينفع وتحتاجه بلادنا، وهذا يخدم الاستثمار المحلي أو في الدول العربية والإسلامية، وهو بلا شك أولى منه في خارجها ، والدعوة إلى تنشيطه واجبة لتكون حافزاً للأذكياء المخلصين من أصحاب رؤوس الأموال على استثمارها في الدول العربية والإسلامية فَيُحْيُوا موات الأرض- إن لم تمت القلوب- فيستخرجوا منها ما يسعدون به، وقد مَنَحنَا الله تعالى الشاسعَ من الأرض الصالحة التي تصحرت والمياه العذبة التي انحدرت إلى البحر والأيدي خَدَّرَتْها البطالة، وأصبحنا نستورد القوت ومعظم مستلزمات الحياة من وراء الحدود، وكأنَّ قول الله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴿٣٣﴾ (سورة يس، الآية 33).

وبدل أن يستثمر تجارنا وأصحابُ رؤوس الأموالِ الأذكياء المليارات من العملات الصعبة خارج البلاد العربية والإسلامية- يمكنهم أن يستثمروها في بلادهم بمشاريع نافعة، وتشغيل الأيدي العاطلة، وزراعة الأراضي التي تَصَحَّرَت- وكانت تمسى أرض السواد- ويستثمروا الماء العذب الذي انساب إلى البحر بلا استثمار، وهذا كفران لهذه النعم التي لم تستثمر.

وكثير من بلاد المسلمين يعجز أهلها مادياً عن استثمارها والنهوض بها وصاروا يعانون الفقر والجهل والأمراض، ولو استثمر أصحاب رؤوس الأموال التي في الخارج أموالهم في الداخل لتحسن حالهم الاقتصادي، وتخلصوا من البطالة التي هي أحد أعمدة الفساد في هذه المجتمعات، وأحد أسباب المشاكل الاجتماعية والركض وراء المفسدين.

ولا يخفى أن أبرز أسباب إخراج رؤوس أموال المسلمين هو عجز حكام بعض الدول العربية والإسلامية عن توفير الجو الآمن لأصحاب رؤوس الأموال، ولم يسعوا لتذليل الصعاب في سير العمل، فضلاً عن إهمال التسهيلات والمحفزات التي تقدمها الدول الأجنبية من رفع الضرائب أو تخفيفها وتخفيض الرسوم تشجيعاً للمستثمرين لا لسواد عيونهم ولكن حرصاً على عمارة بلادهم بهذا الاستثمار، فيا ليت قومي يعلمون!

وهذه الأسباب يجب علاجها، لأنها من واجب الدولة ومن واجب المفكرين أن يوفروا للمستثمرين الأمن ويذللوا كل صعب، ومن الحكم:

لاستسهلن الصعب أو أدرك المنى *** فما انقادت الآمال إلا لصابر

وقد انتبه بعض من الدول في المنطقة فعالجوها ونهضوا ببلادهم نوعاً ما، فحالهم الآن أفضل منه قبل ربع قرن، وإن لم يبلغوا القمة لكن التحسن ملموس والبعض قفز ويحاول، وكمثال جزئي: تركيا والمملكة العربية السعودية، وسوريا قبل دمارها نتيجة الاستبداد والدكتاتورية والتهور إذ كانت مرشحة للرقي حيث كانت قبل هذه المدة البلد الوحيد في المنطقة مكتفية ذاتياً لا تستورد شيئاً إلا ما ندر، وغيرهم يستورد الخبز والخضر.

نسأل الله تعالى أن ينبهنا من رقدة الغافلين ويرزقنا إتباع خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ويوقظ النيام ويشحذ عزائم المعنيين بنهضة الأمة وإصلاح حالها في معاشها ومعادها، فهو ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه والحمد لله رب العالمين.