بيع وشرط

أ.د. مفلح عبد الواحد محمد سعيد الهيتي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه ومن والاه  وبعد فان الكتابة في  الفقه تنفع الكاتب وغيره يؤكده قول النبي صلى  الله  عليه  وسلم  (من يرد الله  به  خيرا  يفقهه في الدين ويلهمه رشده ) لان الفقه يحتاجه كل مسلم في حياته اليومية  سواء منها العبادية اي ما يكون بين العبد وربه كالصلاة والصيام والزكاة والحج والطهارة  وغيرها من العبادات ،او ما يتعلق بالمعاملات المالية والتي تكون العلاقة فيها بين العبد والعبد الاخر كالبيع والشراء والاجارة والاعارة والشركات والمضاربات وغيرها ، او ما يخص شخص الانسان وهو ما يطلق عليه الاحوال الشخصية كالزواج والطلاق والعدة والنفقة وغيرها .
فالفقه اذن يلامس حياة الانسان بكل جوانبه ويحتاج اليه في كل شأن من شؤنه ولا يمكنه الاستغناء عنه .
والذي دعاني الى الكتابة في موضوع فقهي في جانب المعاملات وبالذات في هذا الموضوع نفسه اني قد سئلت من قبل صاحب احدى الشركات وصيغة السؤال ان صاحب الشركة يبيع الفلاح تقاوي البطاطا (أي بذور البطاطا ) يبيعها للفلاح بسعر مدعم من قبل الشركة ويقدم صاحب الشركة للفلاح كل ما يحتاجه الزرع مما يتعلق بالمبيدات وبإشراف مهندس من قبل صاحب الشركة ، الا ان صاحب الشركة يشترط اثناء العقد على الفلاح ان لا يبيع الناتج الا لهذه الشركة والا يتوجب على الفلاح عقوبة مالية ان باعها لغير هذه الشركة . أجبت بعدم الجواز لأنه بيع وشرط وعرضت المسألة على لجنة الافتاء في كلية الامام الاعظم قسم الانبار وانا احدهم فكان الجواب نفس ما اجبته ، بيع وشرط والنبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع وشرط )وبما ان هذه المسألة فيها نفع للشركة ونفع اكبر للمستفيدين من شراء هذه البذور من اجل تشغيل الايدي العاملة وايجاد فرص عمل للعاطلين الذين لا يجدون عملا ،وفيها ايضا اصلاح الاراضي واستغلالها بمنتوج استراتيجي . قررت ان ابحث المسألة اكثر واعمق بالرجوع الى المصادر الفقهية والثروة العلمية التي خلفها لنا علماؤنا الاجلاء رحمهم الله تعالى ووجدت الآتي من اقوالهم.
اختلف الفقهاء في الشرط الذي يعود نفعه للبائع او للمشتري على قولين :
القول الاول قالوا: بعدم جواز الشرط مع البيع والى هذا ذهب الحنفية، والمالكية ،والشافعية [1].
وأستدلوا بقولهم ان النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع وشرط)[2] .
  • وقالوا: لان هذه الشروط لا تخلو ان تكون على البائع او على المشتري فان كانت على البائع فقد منعته من استقرار ملكه على الثمن وادت الى جهالة فيه ، وان كانت على المشتري فقد منعته من تمام ملكه للمبيع واضعفت تصرفه فيه فبطل العقد بكل واحد منها [3] .
  • وقالوا ايضا : ان انضمام الشروط الى البيع يبقى علقة بعد البيع يثور بسببها منازعة بين المتبايعين فبطل اعني الشرط [4] .
القول الثاني :
قالوا يجوز البيع مع الشرط والى هذا ذهب الحنابلة ، واسحاق بن راهوي، وابو ثور ، والاوزاعي ، وابن المنذر ، وابن شبرمة[5].
وأستدلوا بقولهم لم يصح ان النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع وشرط )وانما الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم( نهى عن شرطين في بيع )[6] وهذا دال بمفهومه على جواز الشرط الواحد ، قال الامام احمد رحمه الله تعالى انما النهي عن شرطين في بيع اما الشرط الواحد فلا بأس به [7] ومثلوا له كأن يشتري ثوبا ويشترط على بائعه خياطته قميصاً ، أو حطبا ويشترط حمله لان محمدا بن مسلمة اشترى من نبطي جزرة حطب وشرط عليه حملها واشتهر ذلك فلم يُنكر .
اما اذا شرط شرطين مثل ان يشترط خياطة الثوب وقصارته ، وفي الحطب حمله وتكسيره فسد العقد لقوله صلى الله عليه وسلم (لا شرطان في بيع [8])[9].
  • وأستدلوا ايضا بحديث جابر رضي الله عنه – قال «كانت لي ناقة ثغال فقامت علي في بعض الطريق فأدركني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال ما بالك يا جابر فقلت جرى أن لا يكون لي إلا ناقة ثغال فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن راحلته فدعا بماء ورشه في وجه ناقتي ثم قال اركبها فركبتها فجعلت تسبق كل راحلة – الحديث – إلى أن قال أتبيعني ناقتك بأربعمائة درهم فقلت: هي لك يا رسول الله ولكن من لي بالحمل إلى المدينة فقال  صلى الله عليه وسلم: لك ظهرها إلى المدينة فاشتراها رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بأربعمائة درهم فلما قدمت المدينة جئت بالناقة إلى باب المسجد ودخلت المسجد فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: أين الناقة قلت: بالباب فقال: جئت لطلب الثمن فسكت فأمر بلالا  رضي الله تعالى عنه  فأعطاني أربع مائة درهم فقال  صلى الله عليه وسلم: خذها مع الناقة فيما لك بارك الله لك فيهما»[10].
وقالوا: ولا يجوزان يشترط النبي صلى الله عليه وسلم في عقده شرطا فاسداً ، فدل على صحة البيع والشرط[11].
  • وأحتجوا ايضاً بشراء عثمان رضي الله عنه من صهيب ارضاً وشرط وقفها عليه وعلى عقبه[12] .
  • وردَّ اصحاب المذهب الاول على القائلين بجواز الشرط مع البيع في استدلالهم بحديث جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم . قال: الامام السرخسي في المبسوط “وتأويل حديث جابر رضي الله عنه ان ذلك لم يكن شرطاً في البيع على ما جرى بينهما ، لم يكن بيعاً حقيقةً وانما كان ذلك من حسن العشرة والصحبة في السفر “[13].
والناضر الى حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع جابر رضي الله عنه لم يحتمل هذا التأويل لان البيع انعقد بينهما عن طريق الايجاب والقبول وان جابر جاء ليسلم البعير للنبي صلى الله عليه وسلم فهو جاد وجازم بان البيع تم بينهما ويؤكده ايضاً دفع النبي صلى الله عليه وسلم له نفس المبلغ الذي تم الاتفاق عليه بينهما . الا ان النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق الكريم اراد ان يتفضل على جابر فدفع له الجمل وقيمته والله أعلم .
وأجاب ايضاً اصحاب المذهب الاول القائلين بالجواز بقولهم حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن (بيع وشرط) انه لا يعلم له اسناد يصح مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس ولانعقاد الاجماع على خلافه .
أما مخالفته للسنة الصحيحة فان جابر باع بعيرة وشرط ركوبه الى المدينة والنبي  صلى الله عليه وسلم قال(من باع عبداً وله مال فماله للبائع الا ان يشترطه المبتاع[14]) فجعله للمشتري بالشرط الزائد على عقد البيع ،، وأما مخالفته للإجماع فالأمة مجمعة على جواز اشتراط الرهن والكفيل والضمين والتأجيل والخيار ثلاثة فهذا بيع وشرط متفق عليه [15].
والذي اميل اليه جواز الشرط الواحد مع البيع لقوة ادلتهم وضعف الادلة التي استدل بها المانعون وحاجة الناس اليه لتوثيق العقود مع المستفيدين لضعف الوازع الديني وعدم الالتزام ولان من مقاصد الشريعة تحقيق المصالح والله اعلم .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصادر والمراجع
 
  • إعلام الموقعين عن رب العالمين: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، تح/ محمد عبد السلام إبراهيم، ،ط:1، 1411هـ – 1991م، دار الكتب العلمية – ييروت.
  • الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي تح/ الشيخ علي محمد معوض – الشيخ عادل أحمد عبد الموجود،ط:1، 1419 هـ -1999 م، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
  • الروض المربع شرح زاد المستقنع: منصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتىالحنبلى، دار المؤيد – مؤسسة الرسالة.
  • المبسوط: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي ،دار المعرفة – بيروت، 1414هـ – 1993م.
  • الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي ،ط:1، 1422هـ دار طوق النجاة  .
  • حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي ، دار الفكر.
  • الهداية في شرح بداية المبتدي: علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، أبو الحسن برهان الدين ،تح: طلال يوسف ، دار احياء التراث العربي – بيروت – لبنان
  • التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني ، ط:1، 1419هـ. 1989م ،دار الكتب العلمية.
  • مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي ، تح/ حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهر،1414 هـ، 1994 م.
  • الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان بن أحمد المَرْداوي،تح/ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي – الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو،ط:1، 1415 هـ – 1995 م، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة – جمهورية مصر العربية.
  • سنن الترمذي: محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى ، تح/ أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2) ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3)، وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف (جـ 4، 5) ،ط:2، 1395 هـ – 1975 م، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر .
  • روضة الطالبين وعمدة المفتين: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي ،تح/زهير الشاويش،ط:3، 1412هـ / 1991م ،المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- عمان.
  • سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني، تح/ محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.
  • المعجم الأوسط: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني ، تح/ طارق بن عوض الله بن محمد , عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين – القاهرة.
  • الكافي في فقه أهل المدينة: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي ، تح/ محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني،ط:2 ، 1400هـ/1980م ،مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، المملكة العربية السعودية.
  • المجتبى من السنن : أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303هـ) ، تح/ عبد الفتاح أبو غدة ط:2، 1406 – 1986، مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب.
  • مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي ،ط:1، 1415هـ – 1994م، دار الكتب العلمية.
  • المغني لابن قدامة: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي ، مكتبة القاهرة1388،هـ – 1968م.
[1]المبسوط للسرخسي 13/14. الهداية للمرغيناني 3/48. الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3/65. الحاوي الكبير 5/313. مغني المحتاج للشربيني الخطيب 2/ 381.
[2]رواه الطبراني في الاوسط 4/ 335 وفي طريق عبد الله بن عمرو مقال . مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 4/ 152. جملة من الاحاديث الضعيفة والموضوعة ، لشمس الدين محمد بن عبد الهادي الحنبلي ، تح/ حمدي عبد المجيد السلفي 1/4 ، واستغربه النووي في تلخيص الحبير 3/32.
[3]الحاوي الكبير 5/313.
[4]مغني المحتاج 2/ 318.
[5]الانصاف في معرفة الراجح من الخلاف 4/345. الشرح الكبير 3/ 65.  روضة الطالبين للنووي 3/410.
[6]رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، رقم الحديث 1234تح/احمد شاكر  3/ 572.
[7]المغني لابن قدامة 4/73.
[8]سنن ابي داود 3/303 ، رقم الحديث 3056. ورواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، رقم الحديث 1234، 2/526، تح / د. بشار عواد
[9]الكافي 2/23.
[10]رواه النسائي ، تح/ عبد الفتاح ابو غدة  ،رقم الحديث 4639، 7/298، وحكم الالباني بصحته.
[11]الحاوي الكبير 5/ 313.
[12]الروض المربع شرح زاد المستنقع 10/ 319.
[13]المبسوط للسرخسي 13/14.
[14]صحيح البخاري رقم الحديث 2250 ، 2/838.
[15]اعلام الموقعين لابن القيم 2/347.