تربية المسلم على رفض الأنانية، دراسة قرآنية

أ.د. مشعان سعود عبد  العيساوي
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
خلق الله الإنسان بيده، واصطفاه من بين خلقه؛ ليتحمل امانة التكليف وليكون خليفة في الارض، ويهيئ له ظروفاً تؤهله لحياة كريمة، ولن يتحقق ذلك الا بتفاعل بين البشر وتعاون على تحقيق الخير ومحاربة الشر.
ولن يكون هناك مجتمع سليم  مالم تتظافر جهود الجميع، لذا امر الله عباده فقال:  وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (المائدة:٢)، فان عُدِمَ هذا التعاون والتكاتف، وانطوى كلُّ واحد على نفسه ونسي غيره او تناساه وأصبح هدفه مُنصبًَّا على تحصيل منافعه الشخصية متناسيا من حوله, فأن المجتمع ينفك بذلك عراه وتضعف قواه .. لذا اشار القرآن الى ان مسار البشرية الصحيح مبني على اقامة العدل والخير بجهود المجتمع كما ورد في سورة العصر قال تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) (العصر: ١ – ٣)، فلم يكن منجيا للحياة السعيدة الايمان والعمل الصالح مع انهماهما الاساس لكن اضاف اليهما التواصي بالحق والتواصي بالصبر, وكلمة التواصي    ( وإن كان ذلك من عمل الصالحات عطف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يغفل عنه يظن ان العمل الصالح هو ما أثره عمل المرء في خاصته, فوقع التنبيه على ان من العمل المأمور به ارشاد المسلم غيره ودعوته الى الحق, فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدى وعقائد الصواب, واراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر, والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق عطف الخاص على العام ايضا وأن كان خصوصه خصوصًا من وجه، لان الصبر تحمل مشقة اقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في اقامة بعض الحق)(1)
فروح الايجابية ينبغي ان يصطبغ بها المسلم, والبعد عن الانانية هي سمة المؤمن فيرى المسلم نفسه جزءاً من إخوانه المسلمين المستظلين تحت خيمة (لا اله الا الله, محمد رسول الله) يصيبه ما يصيبهم, ويفرحه ما يفرحهم ويحزنه ما يحزنهم, فلا يعزل نفسه عنهم, ولا ينفرد عن الشعور بوجودهم, فيعيش لوحده, مهتمًا بأمر نفسه, قاطعًا تواصله معهم, وقد ضرب الله لنا مثلا من خلقه ممن لم يكلف شرعا ولا توجه اليه الخطاب, بحرصه على بني جنسه,  وشفقته عليهم وقام مسرعا لإنقاذ قومه لما رأى الخطر يداهمهم قال تعالى : حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿١٨﴾ (النمل: ١٨ ) وكان بإمكانها ان تنجو لوحدها وتسرع في الخلاص من الخطر, لكن غريزتها التي اودعها الله فيها ابت الا ان ترى وجوب ابلاغ بني جنسها مما سيحدث لهم من ضرر بالغ, وقد يكون في تبسم سليمان احد هذا المعاني التي تلمح في ذلك …
إن الذي يرى ويشعر انه ليس في ميدان العبودية لوحده, ولا هو منفردًا بالاستكانة والتذلل لخالقه, ليجعله حاضرًا معهم حتى في عبادته ودعاءه, وتذلًّله لمولاه, فإذا ما وقف للعبادة وأدى ما عليه تجاه ربه تذكر اخوانه بما اقرَّ به في نفسه فيرى انه ليس العابد الوحيد يقول احد العلماء لماذا يقول العبد في قراءة الفاتحة وهو يناجي ربه بأعظم سورة في القرآن إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (الفاتحة:5)  ولم يقل أعبد واستعين معبرًا بها عن نفسه في اقراره لله ( وذلك للاعتراف بقصور العبد عن الوقوف في باب ملك الملوك فكأنه يقول: انا يارب العبد الحقير الذليل لا يليق بي أن أقف هذا الموقف في مناجاتك بمفردي, بل انضم الى سلك المؤمنين الموحدين فتقبل دعائي في زمرتهم فنحن جميعا نعبدك ونستعين بك)(2).
كما لا ينسى المسلم صاحبه أبدًا ولو كان في أدقِّ لحظات العبادة والاتصال بالله تعالى ولذا عاتب الله نبيه موسى (u) حينما قدم قبل قومه لمناجاة ربه : وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ  (طه: ٨٣)  اي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت قومك وخرجت من بينهم ؟. (وذلك لما في العجلة من عدم العناية بصحبه لانَّ من شرط المرافقة الموافقة، وهو تعليم الأدب الحسن الرفيع في المصاحبة)(3) مع انه اعتذر له بعذر مقبول: قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ (طه: ٨٤ ) فالشوق وطلب الرضا كانا الدافع له على المسارعة للوصول الى مكان الموعد.
وكان هذا الشعور بصاحب الداعين ربهم والطالبين مغفرته ورضاه، فلم ينسوا المشاركين له في نفس الانتماء والخاضعين لمنهج رب العباد ,فهذا سيدنا نوح (u) وقد لاقى من قومه ما لاقى حتى دعا على قومه المعاندين فتوجه الى ربه قائلا متضرعًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (نوح: ٢٨)  فجعل خاتمة مناجاته الدعاء لنفسه ابتداء ثم لم ينس اقرب الناس اليه وهما والداه ثم عمم أهله و المؤمنين والمؤمنات من أهله وغيرهم ،ولهذا جعل النبي (r) أجر الدعاء للمؤمنين كبيرًا وعظيمًا فقال: (( من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن حسنة))(4).
وقد مدح الله المؤمنين الذين يستغفرون لإخوانهم في العقيدة حتى من مات منهم وسبق الى ربه فقال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (الحشر: ١٠) والمراد كما قال ابن عاشور: (إنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويروضوا انفسهم عليه، وقد دلَّت الآية على ان حقًا على المسلمين ان يذكروا سلفهم بخير وإن حقا عليهم محبة المهاجرين والانصار وتعظيمهم)(5).ومثل ما ذكرنا من عدم اتصاف المسلم بصفة  الانانية في عبادته.
كذلك هي في حياته كلها ينبغي ان لا يقصر الانسان في عمل الخير وان كان مردوده ليس عائدا اليه, بل هو يحب الخير لغيره كما يحبه لنفسه , ويسعى جاهدا الى تقديم ما استطاع في ايجاد الخير والدعوة اليه، لا يقصر عمله في تحقيق مآربه الخاصة دون النظر الى مآلات الفعل وتعديه لغيره, وبذلك يعم الخير وينتشر, ويتعاون كل حسب طاقته ومقدرته في بناء مجتمعه لتحقيق الخلافة المطلوبة من المسلم.
ولعل في قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام دلالة الى ان ما يعمله الشخص ويؤديه من خدمة قد لا تجلب له نفعا خاصًا, ولكن قد يؤدي الى خير يصل به غيره وينفع به محتاجا اليه, ولذا حينما اعترض سيدنا موسى (u) على العبد الصالح في اقامة الجدار وبنائه في قرية لم تقدم لهم الضيافة الواجبة عليهم وقال: قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (الكهف: ٧٧) لأنه تحمل التعب والمشقة من غير سبب ظاهر قال الخضر: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ(الكهف: ٨٢) ليعلمنا (أنَّ صُنع الجميل لا يُترك ولومع اللئام)(6).
فعلى الرغم من عدم رجوعه بالفائدة لنفسه، ولكن (فيها لونًا من الوان توفير الثروة المنتظرة لليتيم او ضعيف من الاله الرحيم بعباده الضعفاء, وفيه مقابله الاساءة بالإحسان)(7) فاعمل المعروف ولا تستهن به, ولا تنتظر ان تقابل بالإحسان, لأنه ما يفعله المسلم ينتظر الاجر والثواب, وكل عمل فهو محسوب عند الله, وان النفع سيظهر ولو في يوم من الايام.
ولما قصرت رؤية بعضهم عن هذا الملحظ ووقف عند مصالح نفسه ونسي اخوانه فقال:((اللهم ارحمني وارحم محمدًا ولا تشرك  في رحمتنا أحداً، فقال له النبي (r): يا  هذا  لقد حجرت واسعًا.)(8) فلم يعجب النبي دعاءه لنفسه وحده فلانه بخل برحمة الله وأنه قد ضيق ما هو اوسع من ذلك ورحمته وسعت كل شيء(9).
ويأتي قول النبي (r) معلنا خطر الانانية على صدق الايمان ومنبها اصحاب النظرات الضيقة فلا يرون الا مصالحهم، (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))(10) بل ورد في بعض الروايات التعميم كما في رواية احمد (( لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحبه لنفسه من الخير)(11). والخير كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدينية والدنيوية وتخرج المنهيات.. وفي رواية لمسلم صريحة لاقتلاع جذور الانانيّة والتنبيه الى عدم تلائمها مع الايمان ( ويأتي إلى النّاس الذي يحب أن يؤتى إليه)(12).
الهــــــــــــــــــــوامش
  1. التحرير والتنوير: ابن عاشور: 30/532.
  2. صفوة التفاسير: الصابوني: 1/27.
  3. التفسير المنير: وهبة الزحيلي: 16/262.
  4. رواه الطبراني، وقال الهيثمي إسناده جيد: 4/448.
  5. التحرير والتنوير: 28/97.
  6. روح المعاني: الآلوسي: 11/381.
  7. التفسير المنير: 17/16.
  8. رواه البخاري: 18/435، (5551).
  9. فتح الباري: ابن حجر: 17/149.
  10. البخاري: 1/10، (13)، ومسلم: 1/49.
  11. رواه أحمد: 3/176، وابن حبان (235).
  12. صحيح مسلم: 6/18.