من موازين القرآن الكريم ( ميزان القلة.. مرتكزاته وآثاره)
د. عبد الكريم ناصر الخزرجي
لقد أودع الله عز وجل في كتابه العزيز موازين كثيرة عبارة عن وسائل لتحصيل السعادة في الدنيا والآخرة ، وإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا سارت في ضوء هذه الموازين التي تجسدت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كان قرآنا يمشي بين الناس ، أفلحت كما أفلحت سابقا وانتصرت وانقاد لها غيرها من الأمم، وإذا تراجعت وتخلفت عن أن تسير في ضوء هذه الموازين فالعاقبة وخيمة والمصير مفجع.
والميزان الذي نقف عنده في هذه الوقفة اليسيرة هو ميزان (القلة المحمودة مرتكزاتها وآثارها)، فالقلة ضد الكثرة من الفعل قلّ وهما أصلان صحيحان كما ذكر أهل اللغة بمعنى نزارة الشيء والمعنى الثاني على خلاف الاستقرار وهو الانزعاج، والمقصود هو المعنى الأول، من قلّ الشيء يقلّ فهو قليل وقلة وقد وردت القلة محمودة في مواضع كثيرة في القرآن الكريم ، منها:
قوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13).
وقوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة: 83).
وقوله تعالى: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) (ص: 24).
فالقلة ليست عيبا في حياة الأمة بل قد تكون سببا لنصرتها، وذلك لأن القلة كثيرا ما تتوافق على الحق وتتفق على نصرته، والدفاع عنه، وكثيرا ما تتواءم القلوب في القلة على الخير والنفع للإنسان فها هم فتية أصحاب الكهف لم يتجاوز عددهم سبعة أو ثمانية، ولكن توافقوا على أمر عظيم وهو التوحيد، في ظرف ووقت عصيبين، وهو وقت انتشار الباطل وتفشي عقيدة الشرك والوثنية ، وعلى الر غم من قلتهم إلا أنّ الله تعالى خلد ذكرهم ومدح صنيعهم وأعلى شأنهم ، فأنزل عليهم من جميل ألطافه مما حباهم بمعجزة خالدة إلى يوم القيامة ، وجعل وقعتهم قرآنا يتلى إلى قيام الساعة.
وربما تكون القلة بالجمع المحصور من الأفراد، وربما بالرهط وقد تكون بالواحد، ولكن هؤلاء القلة عن أمة في قوتهم وشجاعتهم وسمتهم وانضباطهم وقوة إرادتهم وصلابة شكيمتهم ، إذ لم ينفك القرآن الكريم أن يوضح دعائم القلة والقيم التي يجب أن يتمسكوا بها ويلتزموا بها، بل وقف عندها وأبان حقيقة هذه المرتكزات التي تكون وسيلة لهذه القلة أن تثبت في وسط المحن وتجتاز التحديات ، ومن هذه المرتكزات:
-
الشجاعة: أي القوة في الحق وعدم الركون إلى الجبن لأن الجبن ليس من شيمة الرجال ولا من طبع أهل الأصالة والحضارة.
-
الانضباط وعدم التسيب: وهذه الخاصية تنبو عن الخلق وحسن الإتباع وعدم التفلت من التطبيق، بل من طبعهم حسن الانصياع والانضباط.
-
الإخلاص والتجرد: دون الميل إلى الشخصنة والمصلحة المادية والمنفعة النافقة، بل العمل بتجرد لوجه الله تعالى، وعدم النظر إلى مردودات المنافع الدنيوية بل الالتفات إلى المصالح العامة والمنافع الأخروية.
-
القوة وشدة البأس: وعدم الضعف والهوان والركون إلى الخور والاستكانة.