الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعـد:
فقد باتت الأخطاء الطبية من الأمور المنتشرة في معظم بلدان العالم المتقدمة منها وغيرها حتى أصبحت مصدر قلق ، لما يتعرض فيها المرضى من أضرار بالغة، وقد يدفع المرضى في بعض الأحيان حياتهم ثمناً لها، وقد نصت الشريعة على اعتبار المسؤولية في الأخطاء الطبية، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهُوَ ضَامِنٌ ))[1]، والحديث يعد أصلاً عند أهل العلم في تضمين الجاهل إذا عالج غيره وتضرر بعلاج، ويدل هذا على اهتمام الشريعة الإسلاميَّة بالنفس الإنسانيَّة، وعنايتها بحفظها، لان حفظها من الضَّرورات التي جاءت الشريعة بوجوب حِفظها عمَّا يؤذيها ، من ضربٍ، أو جرح، أو قتل، أو أيِّ اعتداء بكل صُورِه وأشكاله عليها؛ بدون مبرر شرعي، وعليه فان الطبيب يضمن التعويض في الأخطاء الطبية ، وهو مسؤول مسؤوليةً كاملةً عن الأخطاء التي يرتكبها أثناءَ تأدية العمل الطِّبي، ممَّا يكفل حق الطبيب والمريض على حدٍّ سواء.
وقد اتفق جمهور الفقهاء، على عدم تضمين الأطباء الحذاق الماهرين، الذين عرف منهم المهارة في الطب واشتهروا بها، ولم تجن أيديهم أو يتعدوا أو يفرطوا ويقصروا ؛ والمراد بالطبيب الحاذق: أي الماهر الذي بلغ درجة من العلم والمعرفة والخبرة بالطب تؤهله للنظر في أبدان الآدميين ومداواتها، فإنه لا ضمان عليه، ولو وقع الضرر على المريض من جراء المعالجة ما دام الطبيب مأذونا له من الحاكم أو الولي بالعلاج ومجازا ، فلا يجمع بين الضمان والجواز ،كما قرر ذلك الفقهاء،ولم يقع من تعدي أثناء العلاج والجراحة بل حصل الضرر أو الموت نتيجة أمر لا يمكن توقعه أو تفاديه، وعمل طبقا للأصول والقواعد العِلميَّة.
واتفقوا على أن الطبيب يضمن ما يتلفه من نفس أو أعضاء في حالات قرروها وهي كالاتي:
1- المتعدي العامد، تعمد القتل أو قطع العضو بقصد الضرر : فيعد ظالماً معتدياً ، وخرج عن وصفه بكونه طبيباً لتحقق القصد ،وهذا قليل جدا أو يكاد يكون معدوما أحيانا ، لما عُرف عن الأطباء من الحرص على نفع مرضاهم ، وهم محل حسن الظن ، وهذا هو الأصل فيهم كما قرر الفقهاء،كما أجمعوا على أن الأخطاء الطِّبيَّة ليس فيها قصاص؛ لأنَّها من قبيل جناية الخطأ، فلا تقبل دعوى القِصاص ضدَّ الطبيب في الأخطاء الطبيَّة؛ بل يضمن الطبيب ما أخطأتْ يدُه بالتعويض، ما لم يكن الطبيب متعمِّدا، فتخرج الصورة من كونها خطأ طبيًّا، إلى جريمة مقصودة.
2- الطبيب الجاهل ، وقد أجمع أهل العلم على تضمين الطبيب الجاهل، وما تسبب في إتلافه بجهله وتغريره المريض. قال القاضي ابن رشد المالكي– رحمه الله تعالى- في بداية المجتهد ونهاية المقتصد: ( ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن، لأنه متعد، وقد ورد في ذلك الإجماع).وهو بجهله يعدُّ متعديّاً ،ومفهوم الحديث السابق الذكر نص في إيجاب الضمان على الطبيب الجاهل، قال الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في كتاب زاد المعاد : (وقوله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ تَطَبَّبَ) ولم يقل : (من طبَّ) ؛ لأن لفظ التفعُّل يدل على تكلف الشيء ، والدخول فيه بعسر ، وكلفة ، وأنه ليس من أهله)، وقال في كتاب الطب النبوي : (متطبب جاهل باشرت يده في بطنه فتلف به، فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل لا علم له، وأذن له في طبه لم يضمن، ولا يخالف هذه الصورة ظاهر الحديث، فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غر العليل وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له في طبه لأجل معرفته ضمن الطبيب ما جنت يداه).وهذا الحديث عده الفقهاء أصلا في تضمين الطبيب ، حيث يرتكب موجبا من موجبات الضمـان،كالعمد والخطأ والجهل وغير ذلك. وقرر الفقهاء أن هذا الضمان من الطبيب الجاهل المتعدي لكون المريض لا يعلم أن الطبيب يجهل الطب والعلاج ، فإن علِم أنه جاهل ورضي به معالِجاً سقط حقه ، ولم يضمن الطبيب مع استحقاقهما للتعزير .
3- الطبيب الماهر الذي أخطأت يدُه:فانه يضمن الدية إذا أتلفت عضواً صحيحاً ، أو مات المريض بسبب ذلك الخطأ، قال الإمام ابن المنذر – رحمه الله تعالى- في كتاب الإجماع : (وأجمعوا على أن قطع الخاتن إذا أخطأ ، فقطع الذَّكر ، والحشفة ، أو بعضها : فعليه ما أخطأ به ، يعقله عنه العاقلة) . والعاقلة المراد بها: الأقارب الذكور الذين ينتسبون إلى نفس العائلة ، كالأب والجد والابن والإخوة والأعمام وأبنائهم.
قال الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى- في كتاب الأم : (وإذا أمر الرجل أن يحجمه ، أو يختن غلامه , أو يبيطر دابته ، فتلفوا من فعله : فإن كان فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بالصناعة : فلا ضمان عليه ، وإن كان فعل ما لا يفعل مثله من أراد الصلاح ، وكان عالماً به : فهو ضامن)
وقال الإمام ابن قدامة المقدسي – رحمه الله تعالى- في المغني: (فأما إذا كان حاذقا وجنت يده، مثل أن يتجاوز القطع، أو يقطع في غير المحل، أو يقطع في آلة يكثر إيلامها، أو يقطع في وقت لا يصلح فيه القطع ضمن، لأنه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ، فأشبه إتلاف المال، ولأنه فعل محرم فيضمن سرايته).
ويُقصد بالخطأ الطبي: ما لم يقصده الطبيب أثناءَ ممارسته للعمل الطِّبي، أو عدم قيام الطبيب بالالتزامات التي فرضتها عليه مهنتُه.ويجب في الخطأ على الطبيب: الدية على العاقلة كما ذكرنا، وكذلك يتحمل تكاليف العلاج، قال الإمام ابن نجيم الحنفي – رحمه الله تعالى- في البحر الرائق: (وللمجني عليه يرجع على الجاني بقدر ما يحتاج إليه من ثمن الدواء وأجرة الأطباء).
وقد قرر الفقهاء إذا أدَّى خطأُ الطبيب إلى موت المريض، فإنَّ الطبيب له حكم قتل الخطأ فيكون مُلزما بالكفارة وهي: عتق رقبةٍ مؤمنة، فإن لم يجدْ فصيام شهرين متتابعين، كما أنَّ عليه ديةً مُسلَّمة إلى أهله؛ إلاَّ أن يصدقوا ويتنازلوا عنها. والله تعالى أعلم.
[1] أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في المستدرك وصححه، ووافقه الذهبي؛ وحسّنه الشيخ الالباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته برقم 6153