معنى الفتوى: الفتوى والفتيا بالضم وفتاوى، والإفتاء مصدر، مأخوذين من الفتى والفتوة، فهو يقوي ما أشكل بيانه، فيشب ويصير فتياً قوياً (البحر المحيط 6/305، المخصص: 4/458).
والاستفتاء: طلب الفتوى، والمستفتي طالب الفتيا وهو المقلد، والمفتي الفقيه: وهو العالم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية بالاستدلال. (أنيس الفقهاء: 1/309، عمدة المفتي والمستفتي: 1/6).
والفتوى: جواب المفتي وبيانه، وقيدها بعضهم بتبيين مشكلات الأحكام، وهي: الأخبار عن حكم شرعي لا على وجه الإلزام، وبينها وبين القضاء عموم وخصوص: وكل قضاء فتوى، وليس كل فتوى قضاء، فالقضاء بيان وإلزام.
وقيل: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه، وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها.
والفتوى أهم من السؤال لعلو شأنها فليس كل من يُسأل يسمى مفتياً..
وكذلك لنسبتها لله تعالى قال سبحانه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ…)، سورة النساء: الآية (176).
والمفتي مبلغ عن الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) فهو يبلغ أمر الله ويوقع عن الله تعالى.
التحذير من الفتيا بغير علم
ألزم الله تعالى أهل العلم بنشره وعدم كتمانه فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ…)، سورة البقرة: الآية (159).
ولكنه حذر في الوقت نفسه من الفتوى والقول على الله بغير علم قال تعالى: (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، سورة البقرة: الآية (169).
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (من أفتى بفتيا بغير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه) الأدب المفرد للبخاري.
وقال (صلى الله عليه وسلم): (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً أو قتله نبي، أو رجل يضل الناس بغير علم، أو مصور يصور التماثيل)، معجم الطبراني الكبير.
وقد كان سلف هذه الأمة من الصحابة ومن تبعهم يكرهون الفتيا ويود أحدهم لو أن غيره كفاه.
إدعاء مرتبة الفتوى
الأصل في الفتوى عدم دعواها، فقد أخرج الطبراني عن ابن عمر (رضي الله عنهما) عن النبي (صلى الله عليه وسلم): (من قال إني عالم فهو جاهل)، المعجم الكبير للطبراني.
وقد كان السلف من العلماء مع أهليتهم يتطارحون ثلاثاً: الإمام والفتوى والوديعة. (يتطارحون: بمعنى يتركونها ويدفعونها عن أنفسهم ويبتعدون عنها).
قال الخطيب البغدادي: (كلّ من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها، إلاّ وقلّ توفيقه، واضطرب في أموره، وإن كان كارهاً لذلك غير وتوفر غيره وأحال الأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه أكثر).
وللخطيب أيضاً: (ما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكاً)، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي.
قال النووي: (اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرّض للخطأ، ولهذا قالوا المفتي موقع عن الله تعالى)، أدب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي.
خطر الإفتاء وأهميته
ولما كان المفتي موقعاً عن رب العزة سبحانه كانت الفتيا بمنزلة خطيرة مهابة لهذا كان سلف الأمة يكرهونها ويتهربون منها، وقد أتى مالكاً سائل فأقام عنده زمناً طويلاً، وهو يقول له: لا أدري، فقال له: إني آتيك من مسافة شهر لأسألك، فإذا عدتُ إلى قومي قالوا: ماذا قال لك مالك؟ فأي شيء أقول لهم؟ فقال له: قل لهم قال لا أدري. بهجة النفوس، لابن أبي جمرة.
وقال ابن المنكدر: (المفتي يدخل بين يدي الله وبين خلقه، فلينظر كيف يفعل؟ فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر)، فيض القدير للمناوي.
وقال حجة الإسلامي الغزالي: (فانظر كيف انعكس الحال، صار المرهوب منه مطلوباً، والمطلوب مرهوباً)، فيض القدير للمناوي.
والإمام الغزالي يتحدث ويصف واقعاً ملموساً في زمانه وزماننا حيث تصدر لهذا الأمر من لا يحسنه، والأصل أن لا يدعي الإفتاء أحد، بل ينبغي أن يتهرب العَالِمُ من هذا الأمر لعلمه بخطر هذا الأمر وهو أن يتكلم نيابة عن الله في دين الله، بل أصبح الحال أن البعض يطلب هذا الوصف بدل أن يتهرب منه.
شروط المفتي
1- الإسلام: فلا يصح فتيا غير المسلم.
2- العقل: فلا يصح فتيا المجنون ومن في حكمه كالمريض النفسي المعروف بمرضه.
3- البلوغ: فلا تصح الفتيا الصغير ولا الصغيرة عند الكثير من أهل العلم.
4- العلم: لأن الفتيا بغير علم حرام فهو كذب على الله تعالى وعلى رسوله (صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، سورة الأعراف: الآية (33).
5- التخصص: وهذا شرط وهو غير العلم المجرد فلابد للمفتي أن يكون عالماً بالواقع والعرف ومآلات الأحكام وسياسات الدولة، وفقه الموازنات، ثم إن كانت الفتوى في الشؤون السياسية أو الاقتصادية فلابد للمفتي أن يلمّ بهذه العلوم ويحيط بها أو أن يستشير من يختص بها وبتثبيت لما يسمع ويلم بهذه الفتوى بما يتيح له التصور الكامل قبل إصدار الحكم والفتوى.
6- الفطانة والتيقظ: فيشترط في المفتي أن يكون فطناً بعيداً عن الغفلة، بصيراً بمكر الناس فلا يخدع، ويكون حذراً عارفاً متفرساً في السائل عالماً بالرجال، وإلا أفتى بظواهر الناس وخُدع بأقوالهم.
قال النووي: شرط المفتي كونه فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكرة صحيح النظر والاستنباط.
7- الاجتهاد: وهو من أهم شروط المفتي ويقصد به: بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي من الأدلة المعتبرة، فيبلغ مرتبة الاجتهاد، قال الشافعي: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله: بناسخه ومنسوخة ومحكمه متشابهه وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإن لم يكن هكذا فليس له أن يفتي.
وبناءً على هذا من كلام الشافعي وغيره فإن هذه الشروط في ندر أن توجد في عالم واحدٍ يستجمع كل تلك العلوم من لغتها وآدابها وعلوم القرآن والحديث واختلاف الصحابة ومن بعدهم.
الفتوى في الأمور العامة وحكمها
الفتوى التي نتحدث عن خطرها ليست هي التي اشتهر حكمها كحكم الصلاة والصوم والزكاة وإنما التي تحتاج إلى عميق علم وتأهيل، وربما ينبني عليها قرار سياسي، أو مصير شعب من الشعوب لذلك ونحن في هذا العصر المتقدم والذي تتداخل فيه التخصّصات لا ينبغي أن تسند الفتوى في الشأن العام إلى شخص يسمى المفتي مهما كانت إمكانياته، بل لابد أن توزع هذه المهمة على مجامع وجماعات لتكون الفتوى بالشورى فهي أبعد عن الخطأ والجماعة أقدر على تحمل المسؤولية وتداول الرأي وتقليب الأوجه من الواحد، وهذا من هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه (رضي الله عنهم)، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: (ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أعلام السنن للتهانوي.
وعن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: قلت يا رسول الله: الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل به قرآن ولم نسمع منك فيه شيئاً، قال: (اجمعوا له العالمين) أو قال (العابدين من المؤمنين واجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا برأي واحد) وفي لفظ (تشاوروا الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة)، جامع الأحاديث للسيوطي، سند علي بن أبي طالب.
قال إمام الحرمين: إن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استقصوا النظر في الوقائع والفتاوى والأقضية، فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى، فإن لم يجدوا فيه متعلقاً راجعوا سنة المصطفى عليه السلام، فإن لم يجدوا فيها شفاء استشاروا واجتهدوا، وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم إلى انقراض عصرهم، ثم استن بهم بسنتهم من بعدهم، غياث الأمم في التياث الظلم، الإمام الجويني.
وعن الشافعي: أن القاضي والمفتي لا يجوز له أن يقضي ويفتي حتى يكون عالماً بالكتاب… مشاوراً فيما اشتبه عليه، وهذا كله مذهب مالك وسائر فقهاء المسلمين في كل مصر، إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين، للباب الشنقيطي.
وبناءً على ما تقدم سعى العلماء إلى تقديم الإجماع واعتباره حجة قاطعة فهو مستند إلى الرأي والفتوى الجماعية ثم يأتي بعده في المرتبة رأي جمهور الفقهاء وهو مقدم على رأي الفرد منهم غالباً.
وفي العصور المتأخرة وبسبب اتساع رقعة أقطار المسلمين واختلاف أجناسهم وألسنتهم آلت الفتوى للمجامع الفقهية في أمور المسلمين العامة وفيما تعم به البلوى، لكي تكون لهذه الوظيفة هيبتها ويتحمل أهلها مسؤوليتها بعد دراسات وبحوث ومشاورات ونقاشات، وقد منَّ الله تعالى علينا في العراق أن تشكل المجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء للدعوة والإفتاء الذي قام على الشورى والتصدر للمستجدات العامة فلقي القبول وتوجهت إليه أنظار المسلمين وفقهم الله للقيام بواجب التبليغ وثبتهم فقد جمع أهل العلم والورع، ثم كي تبقى هذه الأمانة بيد أهلها، فقد تصدر في زماننا من لا يُعرف بعلم ولا دين، وأصبح العامة والمثقفون وغير المختصين وأنصاف المتعلمين يفتون الخلق في الأمور المصيرية والقضايا العظيمة، وعوام الناس لا يفرقون بين العالم الراسخ وبين الداعية المفوه أو الخطيب الناجح، فليس كل هؤلاء يصلح للفتوى والتوقيع عن رب العالمين سبحانه.
وقد أنكر ابن تيمية (رحمه الله) على بعض المتعالمين وكان يحذر منهم، فقيل له: (أجُعلتَ محتسباً على الفتوى؟ فقال: يكون على الخبازين محتسب والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب)، أعلام الموقعين لابن القيم.
وكان أبو حنيفة (رضي الله عنه) يقول بوجوب الحجر على المفتي الماجن، أي المتلاعب بأحكام الشرع.
وقد رأى رجلاً ربيعة شيخ الإمام مالك يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: استُفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، ثم قال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق.
ومما ابتلي به المسلمون اليوم الفتوى الفضائية وهو أن تعطى الفتوى عبر أجهزة الإعلام دون تدقيق وسؤال جيد وتصور واضح، وربما يخطئ المفتي أو الواعظ ولا يمكنه الرجوع إلى السائل أو استدراك الخطأ، وربما أفتى من لا يصح له ذلك.
المقترحات والحلول
بعد الوصية بتقوى الله تعالى ومراقبته أقترح:
1- أن لا يتصدر للفتوى إلا من شهد له العلماء بالعلم والورع.
2- إنشاء معاهد لإعداد المفتين يتخصص بمناهج الإفتاء وإعداد العلماء.
3- دوام التثقيف لأهل العلم كي يواكبوا مستجدات الحياة وعلومها لتكون فتاواهم رصينة ثاقبة.
4- التحذير من بعض المتصدرين من المعممين ممن باعوا ذممهم ودينهم وآخرتهم بعرض من الدنيا قليل، وأصبحوا أعواناً للظالمين.
5- المراقبة والمراجعة لكل ما يصدر من فتوى وخصوصاً في الشؤون العامة للأمة ومفاتحة العلماء والطلب منهم الرجوع عن الخطأ في الفتوى وذلك شأن السلف في الرجوع إلى الحق.
6- تشجيع ودعم المجامع الفقهية واستكمال النقص فيها فعليها المعوَّل في النهضة بحال الفتيا الشورية المدروسة وتوجيه العوام من الناس إليها وتبصيرهم بأهمية المجامع الفقهية والفتوى المبنية على الشورى.
7- التثبت وعدم التسرع في الفتوى عبر الإعلام لأنها تحتاج إلى تأمل وأقترح أن تسجل فتوى كل حلقة ويجاب عنها في الحلقة التي بعدها كي تضبط وتدرس فليس كل أحد قادر على استحضار الإجابة وتصويبها مع دليلها، كما أقترح أن يكون لكل قناة مرجعيتها الشرعية في مسائل الفتوى يستندون عليها.
8- أن يراعي المفتي ظروف البلاد عموماً وبلده خاصة فلابد له من معرفة أحوال المسلمين في دار الإسلام وفي غير دار الإسلام، ولابد من التفريق بين الفتوى العامة والفتوى المُوجهة إلى الفرد.