الحمد لله الذي رفع بالعلم أقواما وخفض بتركه آخرين والصلاة والسلام على سيد العارفين وعلى أله وصحبه الغر الميامين وبعد:
فأن درب المعرفة سعيدة نتائجه مضمونة نهايته، به يمسي البعيد قريبا، ويصبح الصعب محتملا ، ويحس باللذة من سار عليه , ويوقن ايقانا من مشاه , فالعارفون هم الأبصر قلبا، والأكثر حبا والأخوف جنانا، والأقرب رهبة.
ومما خلفه العارفون بالله قولهم (معرفة المردود تسهل بذل المجهود) ، وهذه حكمة عظيمة لمن وعاها وعمل بمقتضاها، فمما نقل إلينا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في نفرٍ من أصحابه في المسجد فدخل عليهم رجلُ، فمكث قليلاً ثم أنصرف، وبعد مدة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا جبريل يخبرني بأن الرجل يتحسس ويتجسس علينا فمن يأتينا به وله الجنة , عندها يقول سيدنا سلمة بن الأكوع: فلم ينهض من الجالسين سوى ثلاث نفرٍ، الأول يملك بعيراً، والثاني يملك حماراً، وأنا لا أملك شيئاً فهممت بالجلوس بعد أن حدثتني نفسي كيف تصل إليه وأنت برجليك وصاحباك لديهم ما يستطيعون اللحاق به وهو على فرس غادر ؟ فقلت لنفسي ولكنها الجنة، فركضت حتى أعياني التعب، وعاد حديث النفس من جديد فعدت أقول لها: إنها الجنة ، فازداد عزمي وقويت همتي فركضت حتى سبقت صاحب الحمار، ثم خارت قواي فذكرت نفسي بالجنة فركضت حتى سبقت صاحب الجمل، وهكذا دوماً أضع حتى بصرت بالرجل وهو لا يعلم بحاجتنا إليه , قد أستظل بظل شجرة فارتميت عليه مطرقاً إياه بيدي وقد أعياني التعب قائلاً له: قم يا جنتي فأوثقته وجئت به الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا أردد: (أنا سلمة بن الأكوع أغلب ذوات الأربع)، فوصلت إليه صلى الله عليه وسلم فردد ما كنت أقول وشهد لي بالجنة , فمعرفة المردود تسهل بذل المجهود .
ومنها نقول فمن عرف مردود الصلاة والقيام بين يدي الله ولذة الصلة واللقاء به سبحانه وتعالى، سهل عليه الوقوف فيها وأتاها ولو حبواً.
ومن عرف مردود الصيام في رمضان وكيف يغفر الله ما تقدم من ذنبه سهل عليه ترك الطعام والشراب وإحراق مهجته وترك الملذات.
ومن عرف مردود الحج، وكيف يعود إلى أهله كيوم ولدته أمه ونظرة الله عز وجل لهم في عرفات سهل عليه بذل المال والوقت والجهد وقطع أكباد الإبل وسار الطويل من المسافات وتحمل أعباء السفر والمشقات فمعرفة المردود تسهل بذل المجهود .
ومن عرف مردود العلم ومدارسته، وهو رضا الله وتسبيح الملائكة له والمخلوقات حتى النملة في جحرها سهل عليه إفناء الليالي والأوقات في طلبه وبذل المجهود من أجل الحصول عليه وتذلل لمن علمه وصبر على الجوع حتى يتعلمه.
ومن عرف مردود طاعة الوالدين، وهو رضا الله عز وجل فرضاه من رضاهما وسخطه من سخطهما، سهل عليه رعايتهما وطاعتهما وسهل عليه أن يعيش في خدمتهما.
ومن عرفت مردود طاعة الزوج وأن المراة إن طاعة زوجها وصلت خمسها دخلت الجنة سهل عليها بذل المجهود من أجل رضاه والتودد إليه حتى تصل إلى قلبه وسهل عليها العيش معه في شدته ورخائه.
وبعد هذا ينبغي علينا أن نعرف المردود من كل عملٍ وعبادة حق المعرفة حتى يسهل علينا بذل المجهود ويتصاغر في أعيننا كل غالٍ ونفيس ويسهل علينا البذل والعطاء .