خيركم لأهله (دعوة للارتقاء الأسري)

د. طه أحمد الزيدي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإن الله تعالى خلق الناس سواسية من أصل واحد وفطرة سليمة نقية، في بيئة مجتمعية متعايشة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات:13)، وفي الحديث القدسي: (وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ) رواه مسلم وقال عليه الصلاة والسلام (الناس بنو آدم وآدم من تراب) الترمذي وأبو داود.
 ومع كون الأصل واحد إلا أن المآل ليس واحدا وإنما متفاوت إلى درجات متدرجة، ومراتب متفاوتة ومقامات متباينة، قال تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (آل عمران: 163)، وقد أرشدهم سبحانه إلى سبل الارتقاء والسمو والعلو والخيرية، وبيّن لهم معيارية التفاضل وحقيقة التكامل في خطاب موحد وترك لهم حرية الاستجابة في دائرة التكليف والاستطاعة:
  • معيارية التفاضل والارتقاء بقيم التقوى والإيمان، قال تعالى:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات:13)، وقال سبحانه: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(الأنفال:4)، وهذه المعيارية التفاضلية تغلب في علاقة الإنسان مع ربه، وبنائه الإيماني.
وقد بيّن النبي عليه الصلاة والسلام أوجه الخيرية والتفاضل في مقدار قوة الإيمان أو في ثمرات القوة الإيمانية ومخرجاتها في حياة المسلم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» رواه مسلم، فكلما ازداد المؤمن قوة في إيمانه وصلابة في مواقفه ارتقى وارتفع علوا في سلم القرب من الله .
  • معيارية التفاضل والارتقاء بالعمل والعطاء: قال تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:132)، وقال سبحانه: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الاحقاف:19)، وهذه المعيارية التفاضلية تغلب في علاقة الإنسان مع الآخرين، وفي بنائه الاجتماعي، وقد وجه النبي عليه الصلاة والسلام أبناء أمته إلى ابتغاء الخيرية في حسن العمل، وطلب التفاضلية في كثرة العطاء النافع المتواصل، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا، وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالًا) رواه الإمام أحمد بسند حسن، ويتجلى الارتقاء في حسن التعامل مع أداء حقوق الآخرين، قال صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً ) متفق عليه.
  • معيارية التفاضل والارتقاء بالتزكية والتحلي بقيم التمحيص في الأحوال من مراتب العلم ومقامات السلوك والأدب: قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) (الإنعام:165)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (المجادلة:11)، وهذه المعيارية التفاضلية تغلب في علاقة الإنسان مع نفسه، وبناء شخصيته.
 وقد وجه النبي عليه الصلاة والسلام أبناء أمته إلى تطلّب الخيرية في ميادين تزكية النفس وتهذيب السلوك، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُكُمْ إِسْلَامًا أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، إِذَا فَقِهُوا ) رواه الإمام أحمد بسند صحيح، وفي باب العلم: قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» رواه البخاري.
وجماع الخيرية في المسلم فيما يرتجى منه في هذه العلاقات الثلاث: فقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس جلوس، فقال: «ألا أخبركم بخيركم من شركم؟» قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: بلى يا رسول الله، أخبرنا بخيرنا من شرنا، قال: (خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ، وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ )  رواه احمد والترمذي بسند حسن صحيح.
الخيرية في الارتقاء الأسري
لقد عالج النبي عليه الصلاة والسلام مسألة الارتقاء بالأسرة والوصول بها إلى أعلى مراتب الخيرية، مبتدئا ببيان حقوق الأسرة، وأنها من سننه ومحذرا من إهمالها والتهاون فيها؛ لما يؤدي ذلك من ترك الاقتداء به وهجر هديه القويم، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَت: دَخَلَتْ عَلَيَّ خُوَيْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ وَكَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، قَالَتْ: فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَذَاذَةَ هَيْئَتِهَا، فَقَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ، مَا أَبَذَّ هَيْئَةَ خُوَيْلَةَ؟ ” قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ فَهِيَ كَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، فَتَرَكَتْ نَفْسَهَا وَأَضَاعَتْهَا، قَالَتْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَجَاءَهُ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ، قَالَ: فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ، قَالَت: فَأَتَتْهُمُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَطِرَةً كَأَنَّهَا عَرُوسٌ) رواه أحمد وأبو داود.
نعم إنّ لأهلك وأسرتك عليك حقا لا يقل شأنا عن الحقوق الأخرى، وقد فقه الجيل الاول من الصحابة الكرام هذا التوجيه النبوي وحولوه الى برنامج توجيهي واقعي في تصحيح التعامل الأسري، أداء لمسؤولية الإخوة الإيمانية، فعندما آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، زَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: سَلْمَانُ قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ» رواه البخاري.
إن منطلق الخيرية في المجتمع يبدأ من الأسرة بأداء حقوقها والحرص على الارتقاء بها، قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لنسائهم) رواه الترمذي بسند حسن صحيح ، فمن لم يصنع الخير في أهله لن يكون مؤهلا لنشر الخير في مجتمعه، ومن يترفع عن الوفاء بحقوق أسرته ، فلا نأمل منه حرصا على حفظ حقوق أبناء مجتمعه، بل لا عذر لأحد في تبرير ضعف تقديم الخير للأسرة بعد أن ضرب النبي مثلا واقعيا في بذله الخير لأهله على الرغم من كثرة مشاغله وتعدد التزاماته، قال عليه الصلاة والسلام: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي) رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح.
فهذه دعوة صريحة من معلم الناس الخير في البدء بالخير من الأسرة، فلا ارتقاء في المجتمعات إن تم التفريط بحقوق الأسرة، ولن نرتفع بحضارتنا إن لم نرتقِ بأسرنا، ولن يعم الخير في أوطاننا ونحن نزرع الشر في عوائلنا .
فلنبادر جمعيا في ترميم البناء الأسري كونه اللبنة الأساس في صناعة المجتمعات، ولن يتحقق التوازن الاجتماعي إلا بالاستقرار الأسري، ومع أنّ الأسرة أصغر وحدة في البناء الاجتماعي، إلا أنها تمثل القلب في جسد المجتمع، فإن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، بل إنه ينهار بانهيارها وينحدر بانحدارها، وفي المقابل فإنه يرتقي عند الارتقاء بها، ويعم الخير فيه عندما نزرعه في أسرنا ونربي عليه أبناءنا.
وأخيرا يقول عليه الصلاة والسلام: (تَنَاكَحُوا، تَكْثُرُوا، فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه عبد الرزاق في مصنفه، ولعل من صور الارتقاء بالأسرة ، وجعلها من خير الأسر وأفضلها ومحط مباهاة النبي عليه الصلاة والسلام:
– استشعار المسؤولية التضامنية للزوجين أو للأبوين في الإصلاح الأسري.
– احترام الحقوق الزوجية وعدم التفريط بها أو الانشغال عنها بأداء حقوق الآخرين.
– القيام بواجبات التربية الأسرية بصورها كافة: الإيمانية والأخلاقية والثقافية.
– الحرص على تفوق أفراد عائلتك في مراتب الدين وميادين الدنيا.
– الحذر من التهاون في متابعة الأسرة، ولاسيما في ظل وسائل الترفيه والتواصل الحديثة؛ لأن ذلك أمانة في أعناقنا، ومسؤولية شرعية نتحملها، قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ)، رواه الترمذي والنسائي.
– لا تنشغل بنجاحك الشخصي عن نجاحاتك الأسرية: لا بد من تكاملية النجاح في برنامج حياتك وخططك المستقبلية: فكن شخصية ناجحة – وزوجا ناجحا- وأبا ناجحا – وأخا ناجحا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.