الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد أوجب الإسلام على المسلمين احترام العلماء وتوقيرهم وتقديرهم وعدم التجاوز عليهم بأي شكل من الأشكال، فهم قدوة المجتمع وقادته، وبهم يرتقي المجتمع وينهض ويرقى إلى أعلى المراتب، وهم الذين يبينون له أحكام الشرع ومقاصده، ويقررون له الأحكام الشرعية لما يعتري حياة أفراده من مستجدات ونوازل، قال الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْكُمْ)) (سورة النساء:59)، وأولي الأمر يقصد بها العلماء عند كثير من المفسرين.
ولقد كثرت النصوص التي ترفع مقام العالم وتميزه عن غيره، فقال تعالى: (( قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ )) (سورة الزمر:9)، وقال تعالى: (( إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء)) (سورة فاطر:28)، وقال: (( َيرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) (المجادلة:11) فمن هذه النصوص الشرعية ميّز الله العلماء عن غيرهم ورفع مكانتهم, وجعلهم الآمر- الناهي في النوازل وغيرها, وأوجب طاعتهم فيما يتعلق بأمور الدين, ونهى عن عصيانهم وتجاوز أمرهم فيما يقررون ويفتون, ولما ميزهم الله سبحانه وتعالى بقوله (درجات) جعلها نكرة ولم يحدد هذه الدرجات بل هو سبحانه الذي يكافؤهم ويرفع شأنهم ومكانتهم كيفما شاء.
ولقد فضّلهم النبي صلى الله عليه وسلم وميّز قدرهم وحفظ لهم مكانتهم الشرعية وجعلهم ورثة الأنبياء لما يحملون من علم ومكانة لأنّهم يورثون العلم الذي ينفع الناس في دنياهم وأخراهم بدل الدرهم والدينار فقال صلى الله عليه وسلم : (..وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ). رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وقد حذر الإسلام من مهاجمة العلماء والانتقاص من قدرهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ) رواه البخاري، قال ابن حجر –رحمه الله- : “المراد بولي الله، العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته”، وروى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي – رحمهما الله – أنهما قالا: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي.
ومما ينبغي التأكيد عليه: أن الهجمات الشرسة الممنهجة التي يتعرض لها علماؤنا اليوم مهما كانت حدتها وعددها، فإنها لا تنتقص من قدرهم وقيمتهم ومكانتهم، فالعالم الرباني الذي يقف مع قضايا أمته في كل شؤونها في المنشط والمكره والسراء والضراء، ولا يحابي أحداً في رأيه وفتاواه في النوازل وغيرها، فمن الطبيعي أن يتعرض للهجوم والانتقاص والانتقاد وتتوجه نحوه سهام الحاقدين والغيورين، ولهذا عليه أن يصبر على ذلك ويحتسب، ويمضي في منهجه، فإن الله ناصره ومؤيده مادام على طريق الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم.
فمن يتجاوز حدوده ويتعدى على العلماء ويتطاول على قدرهم أو ينتقص من مكانتهم أو يشتمهم , أو يلحق بهم كلاما جارحا لا يليق بهم أو يعمل على تسقيطهم بين الناس , فقد دخل بحرب مفتوحة مع الله عز وجل , وليعلم الجميع أن الله لا يمهل لمن ينتقص من قدر العلماء أو يخوض في أعراضهم لان لحومهم مسمومة , قال ابن عساكر : “إن لحوم العلماء مسمومة وسنة الله في منتقصهم معلومة”.
ولقد ذكر أهل العلم من العلماء العارفين بالله سبحانه وتعالى أن من ينتقص من قدر العلماء أو يخوض في أعراضهم, أو يتجاوز عليهم بأي شكل من الأشكال يعاقبه الله في الدنيا قبل الآخرة , كيف لا؟؟ وقد أصبح الله خصيمه بدلا من العلماء، واقل ما يمكن أن ينتصر الله به للعلماء أن يعاقب منتقصهم وخصيمهم بسوء الخاتمة، حتى قال احدهم : منتقص قدر العلماء يخشى عليه من سوء الخاتمة.
وقال الشاعر:
ما الفضــل إلا لأهل العلـم إنهـمُ …… على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقــدر كل امرئ ما كـان يحسنـه …… والجاهلون لأهل العلم أعـداء
ومن يتطاول على العلماء ويتجاوز قدرهم ومكانتهم عليه أن يعلم أن الكلام على العلماء اقل ما فيه انه غيبة, سيوقفه من يغتابه أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة, ولقد حذّر ديننا الحنيف من الغيبة قال تعالى : ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ )(الحجرات: 12) وقال صلى الله عليه وسلم في حديثه لمعاذ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟) (رواه الترمذي وابن ماجه) , وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ، قَالَ [ص:270]: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ ” (رواه ابو داود) , فحذاري حذاري من هذا المدخل الضيق فاقل ما فيه انه غيبة يجب الابتعاد عنها , والنأي بالنفس عن الكلام فيهم والترفّع عن غيبة العلماء.
ومع هذا التحذير الشرعي الشديد من الكلام في العلماء لا نستغرب أن يخرج علينا في هذه الأيام من طلبة العلم ومن غيرهم من ينتقص من قدر العلماء وعندما تنهاه يقول لك نحن رجال وهم رجال !! نعم : نحن رجال وهم رجال لكن شتان بين رجل ورجل وشتان بين من يحمل العلم الرباني والورع والتقوى وبين من وضع أول قدم في طلب العلم, وشتان بين الذي يعلمون دقائق الأمور وخوافي النوازل في أمر الدين وبين الذين لا يعلمون, وشتان بين من سهر الليالي حتى احدودب ظهره وغارت عيناه ووهن عظمه وخارت قواه وهو يطلب العلم الشرعي وبين من وجده جاهزا دون تعب وسهر.
إنّ الاختلاف في وجهات النظر ليس مبررا للتطاول على العلماء, فاختلاف الرأي لا يفسد للود قضية, وإذا كان الاختلاف في مسألة شرعية فمن باب أولى احترامهم وتقديرهم والأخذ بعين الاعتبار سعة علمهم ومعرفتهم وتعاملهم مع النصوص, فالعالم المجتهد له أجران وان اخطأ فله اجر واحد كما ثبت ذلك في السنة بقوله صلى الله عليه وسلم : (إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) (متفق عليه).
وليعلم كل متربص بالعلماء أن من يقيِّم العلماء يجب أن يكون عالما مثلهم , وبسعة علمهم ومعرفتهم واجتهادهم , فالأحكام الشرعية تتغير من زمان لزمان ومن مجتمع لمجتمع والذي يقدّر الفتوى وزمانها هم العلماء المجتهدون , ومن غير الممكن تقدير الضرورة والحكم إلا بعالم مثله مجتهدا كاجتهاده وعلمه ومعرفته , ويكون على درجة من الورع والتقوى, ولقد تقرر عند العلماء أنّ “الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان وعوائد الناس وأحوالهم”.
وليعلم كل ناقم على العلماء أن هناك وقفة بين يدي الجبار جل جلاله وسيدلي كل منا بدوله وسيحاسب على الصغيرة والكبيرة, وعن الكلمة وتبعاتها , فلرب كلمة تخلد الانسان في جهنم سبعين خريفا كما ثبت ذلك في السنة بقوله صلى الله عليه وسلم 🙁 وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) (رواه البخاري), ولرب كلمة تكون حجة عليك أمام الملك العلام وتكون سببا في سخط الله عليك , فحذاري حذاري من الخوض في سمعة العلماء والحط من قدرهم ومكانتهم , وعلى الجميع بلا استثناء الدفاع عن العلماء بالقدر المستطاع ولاسيما المرابطين منهم الذين يقفون اليوم على ثغرة من ثغور الإسلام في زمن المحن والمصائب والفتن, والذب عنهم بظهر الغيب لئن من ذبّ عن عرض أخيه بظهر الغيب ذبّ الله النار عنه يوم القيامة , قال صلى الله عليه وسلم : (مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ فِي الْغِيبَةِ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ) (رواه احمد) وهذا في الإنسان البسيط , فما بالك إذا كان المعتدى عليه عالما من العلماء؟؟!!!