أهمية الرأي العام في الإسلام

د. ضياء الدين صالح

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛أما بعد:

 فإن كتاب الله تعالى حبل الله المتين والنور المبين وشفاء العليل ؛ عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه فلا يزيغ ولا يَعوَجُ ،ولا تنقضي عجائبه ولا يَخْلُقُ من كثرة الرد، وقد أشار تعالى إلى حقيقة بالغة الأهمية ضمّنها في الآية السادسة والعشرين من سورة غافر)وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدِّل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد(،فرعون وصل إلى درجة أن قال للناس): أنا ربكم الأعلى(، بل قال لهم)يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري(، فلماذا يقول للناس الذين استعبدهم )ذروني أقتل موسى( لماذا يأخذ إذنهم؟ وقد كفر كفراً ما سبقه به أحد من العالمين ؛ الطغاة دائماً لا يؤمنون بالله ولا يخافونه! فلماذا يخافون الأمة ويطلبون إذنها فيما يريدون فعله ؛ هذه القضية عقدة يتقنها غير المسلمين كثيراً ، وأكثر المسلمين ما خطرت لهم على بال ، وهي سلاح ماض حتى فرعون يخشاها ويَحسِبُ لها ألف حساب، الأمر ببساطة هو قوة الرأي العام الذي يؤثر أحيانا في صنع القرار؛والذي يمثل في عالمنا المعاصر استطلاع الرأي العام والوقوف على مؤشراته مرتكزا أساسيا في توجيه صانعي القرار في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الاتجاه الصحيح،وهوالسلاح الخطر الذي يجب على الأمة أن تتقن استعماله،كما أتقن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استخدامه وحسب له الحساب.

فمن منهجه(صلى الله عليه وسلم) في القضايا العامة حرصه على سمعة الإسلام، وتنزيهه عن الأقوال والأفعال التي قد تسبب تشويهه أو وصمه بصفات هو منها بريء،وهذا المنهج النبوي واضحٌ وجليٌّ لكل من تأمل في السيرة العطرة.

والأمثلة على هذا متعددة، ومن النماذج: منهجه عليه الصلاة والسلام في احتواء المشكلات داخل المدينة المنورة، وتجاوزه عن بعض أفعال المنافقين والزنادقة الذي يتظاهرون بالإسلام ويعيشون في المدينة النبوية؛ رغم ما كان يصدر عنهم من مواقف الخيانة العظمى، إلى الحد الذي جعل الصحابة يضيقون ذرعاً بأولئك الأفراد، ويطالبون النبيّ(عليه الصلاة والسلام) بقتلهم في أكثر من من مرة، غير أن النبيّ(عليه الصلاة والسلام) كان متشبثاً بمنهجية الإغضاء، ويعلل ذلك بقوله: ((لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)) رواه البخاري ومسلم.

 وفي واقعة أخرى يحدث جابر بن عبد الله(رضي الله عنه)فيقول: ((لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال: اعدل يا محمد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! لقد خبت وخسرت إن لم أعدل))، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟ قال: ((معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمداً يقتل أصحابه))، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا وأصحاباً له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم))رواه أحمد وأصله في صحيح البخاري.

وفي روايات أو مناسبات أخرى عندما كان الصحابة يرون أن أشخاصاً ممن يعيشون في كنف الدولة الإسلامية ارتكبوا أعمالاً شنيعة، مما يطلق عليه اليوم في قوانين الدول «الخيانة العظمى» نحو أوطانهم، ويطالب الصحابة ومنهم كبار وزراء ومستشاري النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، بتنفيذ الحكم الحاسم نحوهم، إلا أنه كان يرد عليهمكما في الصحيح:((أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه))وبقوله)): فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمداً يقتل أصحابه((.

وأخرج البخاري بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((يا عائشة، لولا أن قومك حديثُ عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم)).

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: لأن قريشًا كانت تعظم الكعبة جدًا، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غيَّر بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة.

فترك النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام دفعًا لمفسدة راجحة،وترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس.

وتوضيحاً لهذه السياسة النبوية: فإن المجتمع الإنساني آنذاك وهو يشاهد هذا الدين الجديد وهذه الدولة الوليدة على أساسه وتشريعاته فإنهم يرمقون اتجاهات قائدها ويراقبون قراراتها، إلى الحد الذي سبروا معه تاريخ هذا القائد منذ مولده وطبيعة تعاملاته وأخلاقه، بل وتاريخ أجداده، كما جاء في الحوار الشهير بين اثنين من أكبر قادة وساسة ذلك العصر وهما القائد القرشي أبو سفيان والملك الرومي هرقل.

وفي ضوء ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك أن الناس من حوله لن يتفهموا سبب الحكم بالإعدام الذي تقضي به الدول نحو من يخونها من رعاياها، فترك ذلك رعايةً لمصلحة أعلى وهي حماية سمعة الرسالة الخاتمة التي كلفه الله بإبلاغها للثقلين.

ولم يزل النبيّ(صلى الله عليه وسلم) محافظاً على منهجية حماية سمعة الإسلام، وبخاصة لدى التعامل مع الدول وأهل الملل الأخرى، عملاً بالتوجيهات الربانية، وعند النظر في الحملات الجائرة لتشويه تراث الأمة وتاريخها والتي يتبناها اليوم أقوام جعلوا هدفهم الأكبر الصد عن دين الإسلام ومنع الناس من تقبله، وسلكوا في سبيل ذلك مسلك التشويه والافتراء، مستغلين أخطاء بعض المسلمين، فراحوا يضخمونها ويسخرون لها وسائل الإعلام والاتصالات ليؤكدوا للعالم مزاعمهم نحو الإسلام ونحو نبيّ الرحمة (عليه الصلاة والسلام)، على غرار ما تابعناه في الفترة الأخيرة من حملات محاولة الإساءة للنبيّ الكريم (عليه الصلاة والسلام)، إن ذلك كله ليفرض علينا أهل الإسلام أن نجعل من أولويات التعامل مع غير المسلمين مبدأ (حماية سمعة الإسلام) و(حماية سمعة سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم) وأن نوضح الصورة الحقيقية للإسلام وأن نعرّف الناس بهدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي قال الله عنه:)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ([الأنبياء:107].