أثر الخلفاء الراشدين في الفقه الإسلامي
الشيخ العلامة أحمد حسن الطه
الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافيء مزيده، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى جميع إخوانه من النبيين وعلى آله الاطهار وصحبه الابرار ومن اهتدى بهديه الى يوم الدين.
وبعد..
فإن أثر الخلفاء الراشدين في الفقه واصوله وقواعده واضح لمن درس تأريخ التشريع في الاسلام فهم من السابقين الأولين الذين عاصروا نزول الوحي، وتبليغ ذلك من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
وعرفوا أحكام الشريعة وتذوقوا حِكمها، ووقفوا على الكثير من أسرارها التي لم يدركها غيرهم.
كان الفقه والتشريع في عصر النبوة محصوراً فيما يوحى الى الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة – مع قطع النظر عن الاجتهاد هل كان مصدراً للتشريع يومئذِ أم لا، والخلاصة: أنه حتى مع القول بأنه كان في العصر النبوي اجتهاد لكنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على غير الصواب.
– وقد أسس الرسول عليه الصلاة والسلام دولة الاسلام في المدينة، فوضع الاسس والخطوط العريضة لتكون معالم للشريعة الاسلامية، وقواعد ومبادئ ومقاصد تهتدي بها الامة الى معرفة الحكم في النوازل غير المحدودة، بينما النصوص محدودة.
حتى إذا ما اختاره الله تعالى لجواره جاء خلفاؤه وصفوة أصحابه متحرين سنته في الحكم كما حكم، أو مستنبطيه من مبادئ الشريعة الاسلامية العامة تحقيقاً لمقاصدها من خلال جوامع الكلم المأثورة عنه، مما عد قواعد فقهية عند العلماء، نحو إنما الأعمال بالنيات، ولا ضرر ولا ضرار، الولد للفراش…..
-
وجاء دور الصديقرضي الله عنهفانتفضت بعض القبائل, وبحكمته وحزمه بعد توفيق الله تعالى أخمد الفتن ووطد دعائم الدولة وأعاد هيبتها وأصر ليقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، وكانت مدته أقصر مما كان يخطط ومع ذلك فقد كان فذاً وقدوة راشدة لمن بعده كان إذا عُرضت عليه القضية نظر في الكتاب فإن وجدها قضى به فإن لم يتضح له شيء سأل: هل إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيها بشيء؟ فربما قالوا قضى بكذا أو كذا فيقضي به.
فان لم يجد جمع رؤساء الناس من أولي الرأي والفقه فاستشارهم, فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى بما اتفقوا عليه؛ لان اتفاقهم هذا اجماع لأنهم أهل الفقه في الأمة وخير القرون لذلك كان اتفاقهم حجة قاطعة واجماعاً معصوماً من الضلالة.
وكان يجتهد أحياناً فإن لم يجد الحكم في الكتاب ولا في السنة ولم يتفقوا على شيء يقول: هذا رأيي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني واستغفر الله.
وكان الاجتهاد في خلافة الشيخين جماعياً يأخذ شكل الشورى يتناقشون في المسألة الواقعة.
وأكثر ما كان اجتهادهم الجماعي في المسائل العامة: كجمع القران، وتوريث المبتوتة في مرض الموت، وتضمين الصُناع ما يتلف بأيديهم من أموال الناس.
-
وجاء عهد عمر رضي الله عنه وقد اتسعت الفتوح (وفُتحت الدنيا على المسلمين بخيراتها وذهبها وواجهوا حضاراتٍ وأوضاعاً لم يعهدوها من قبل. فكان لابد من أن يواجه عمر هذه الحضارات والتطورات الجديدة بتطورات مماثلة مستلهماً روح الشريعة وأهدافها العامة، فأدخل رضي الله عنه كثيراً من التطوير في الحياة: السياسية، والاقتصادية، والمالية، والاجتماعية، والتشريعية، بشكل يحقق للمسلمين مصالحهم ولا يبعدهم عن أصول دينهم, فمصّر الأمصار ووجه القضاة بكتبٍ أرسلها إليهم ولا تزال حتى اليوم كتباً رائدة يتلمس روحها القضاة ورجال القانون كرسالته الى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وشُريح القاضي وغيرهما.
ونظَّم مالية الدولة وأخذ الناس بكثير من الحزم: فدان الناسُ له بالولاء لاعتقادهم أنه ما سلك عمر وادياً إلا وسلك الشيطان غيره – كما في صحيح الحديث – ألم يوافقه القران في ستة عشر اجتهاداً من اجتهاداته؟)[1] لذلك كانت الاجراءات التي تمت في عهد عمر ذات قيمة عالية في التشريعات فهو وإن كان ملهماً كما جاء في الحديث فإن اجتهاده وآرائه كانت تُعرض ويناقشها أعضاء مجلسه وهم صفوة مجتهدي الصحابة فكان البعض منها موضع اتفاق فينال قدسية الاجماع والبعض الآخر يجد المخالف، فكان يفرح ويُروى عنه رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي أو نحو ذلك، وكان يجتهد ويقول لكاتبه قل: هذا ما رأى عمر بن الخطاب.
وكتب الى شُريح: إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقضي به ولا تلتفت الى غيره وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقضي بما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فاقضي بما أجمع عليه الناس وهذه الطريقة في معرفة حكم القضية المطروحة والتي بدأت في عهد أبي بكر واستمرت كما هي في عهد عمر وصدراً من خلافة عثمان قبل أن يأذن بخروج فقهاء الصحابة من المدينة – حيث أن ذلك كان محدوداً ليشاركوا في الاجتهاد فيما يعرض – وكان الخليفة حريصاً على مشاركة كل ذي رأي وفقهٍ بالأخص المعروفين بذلك ممن أشار النبي صلى الله عليه وسلم الى بعضهم بنحو: كان فيمن كان قبلكم محدَّثون فإن يكن… فعمر، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وأكثرهم علماً وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد، وأقرأهم أُبي وهكذا ما ورد في اللامعين كأبي بكر، وعثمان، وابن مسعود، وابن الجراح، وابن عباس، وبن عمر، وبن عمرو بن العاص. فكل هؤلاء كانوا مشتركين فيما عُرض من قضايا أيام الخلفاء الراشدين ولكل رأيه، وفاقاً وخلافاً.
-
ولما جاء عصر عثمان وكانت الدولة قد استكملت تنظيماتها الادارية وما تحتاجه هذه التنظيمات فما كان عليه الا أن يستمر في تنفيذ ما أقامه من سبقه وكان إذا عرضت مسألة يسلك ذات الطريقة التي سلكها من سبقه للتعرف على حكم النازلة والبطانة نفسها من ذوي الرأي والفقه.
وعندما اتسعت رقعة البلاد الاسلامية وربما احتيج الى إرسال البعض من الفقهاء ذوي الرأي والفقه بعث البعض منهم الى الأقاليم قضاة وقادة وعمالاً وكان ذلك اجراءاً جديداً وقد يكون في هذا بعض السلبيات والايجابيات, فالأولى تفرق أهل الإجماع في البلاد فأصبحت مشاركتهم حينما تُطرح القضية في المدينة شبه متعذرة وهم في الأمصار بعيدون وأما الايجابيات فقد وجد هؤلاء الفقهاء في تلك الأقاليم أرضاً خصبة تتلهف إلى سماع أصول التشريع من تلامذة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الرأي والفقه فكان أتباعهم من التابعين نجوماً ساطعة ومعالم هداية فلهم في كل مصر أتباع أمناء أذكياء حريصون على التقاط درر الأحكام من أقوال هؤلاء الصحابة وأفعالهم وسمتهم وأحوالهم التي كانت نسخة من أقوال وأفعال وسمت النبي صلى الله عليه وسلم وما أكثر هؤلاء من تلامذة ابن مسعود وعلي في الكوفة والبصرة وغيرها.
-
وجاء عهد علي رضي الله تعالى عنه وهو من أبرز الصحابة علماً كما صرح بذلك قوله عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة (أما ترضَين أن أزوجك أقدم أمتي سِلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً)[2].